سخروا من قصر قامته فأبهرهم بنجاحه وحصوله على أرفع شهادة إعتماد في أوروبا… إليكم قصة الدكتور غسان حلاق
هو في الشكل، “قصير القامة” أما في المقام فعرف كيف يشق طريقه بعقل وقّاد وثقافة عالية وعينين لمّاعتين عرف من خلالهما كيف يُلاحق من سخروا من قصر قامته ظنّاً منهم ان الإنسان يُحدّده الطول والعرض لا العلم والدماغ والتميّز. الإختصاصي في علوم المختبرات الدكتور غسان حلاق منحه الله مع الإرادة القوية القدرة على التعامل مع حالته مستخدماً أسراراً همس بها والده في أذنيه ذات يوم فأصبحت دستور حياته.
“إسمي غسان جوزف حلاق… كم تعطونني عمراً؟”. يسأل. يبتسم. ويعترف: تجاوزتُ سن السبعين (مواليد 1948) وما زلتُ شاباً. حياة الشاب غسان حلاق، في هذا المجتمع الصعب، لم تكن دائماً سهلة أبداً لكن العطايا السماوية الكثيرة التي نالها مكّنته من تجاوز القطوع تلو القطوع حتى أصبح ما أصبح عليه.
ولد في السودان، حيث كان يعمل والده، وعاد الى البلد الأم وهو في السابعة من عمره. درس في “برمانا هاي سكول” وانتقل الى لندن حيث تابع دراسته الجامعية في علوم المختبرات طوال أحد عشر عاماً. وعاد الى لبنان في العام 1978 ليبني مستقبله. غسان حلاق يبدو وهو يُخبرنا عن حالِهِ واثقاً جداً بنفسه. هو عرف منذ كان صغيراً أنه لا يُشبه كل الآخرين، أو 99,999 من الآخرين. لاحظ ذلك منذ كان في سن الخامسة، فأصحابه يزدادون “طولاً” أما هو فلا. وشقيقه الذي هو أصغر منه بأربعة أعوام أصبح أكثر طولاً منه. وهنا، بدأ يسأل ويتساءل كثيراً: “لماذا أنا أقصر من كل الآخرين؟”.
الحقيقة كما هي…
سأل غسان، ووالده أجاب، فهل أقنعته الإجابة؟ هل فهم ابن الخمس سنوات أن خللاً جينياً سيجعله حسب التصنيف الإجتماعي، قزماً؟ يجيب الدكتور حلاق بلسان كل من يعانون من حالات خاصة: “هناك أهالٍ يحاولون أن يضحكوا على أطفالهم بإجابات واهية، غير أن والدي قال لي منذ البداية الحقيقة. قال لي: مثلما هناك أشخاص بعينين زرقاوين وآخرون بعينين سوداوين، ومثلما هناك أناس بدناء وآخرون نحفاء، هناك أطفال يولدون بجينة تبقيهم قصار القامة وهناك آخرون عمالقة. قال والدي الحقيقة ببساطة شديدة فأقنعني”.
ماذا عن نظرة المجتمع إليه؟ هل أربكته؟ هل ضايقته؟ هل سخرية البعض جعلته يبكي؟ يصرخ؟ يواجه؟ يجيب “أهلي جعلوني والحمدلله أستعدّ لمواجهة نظرة الناس، التي كثيراً ما تسيء الى الآخرين حتى ولو عن غير قصد. هذا التحضير المسبق مهم جداً وأساسي لأنه يجعل الطفل، الذي يعاني من حالة ما، يلاقي رفاقه واثقاً بنفسه قوياً”.
ثقة غسان حلاق بنفسِهِ كبيرة لكن الإنسان، أي إنسان، قد يمرّ في لحظات ضعف. هو شعر بالضعف حين رأى كل أقرانه يلعبون كرة السلة فيما هو واقف، عاجز عن المشاركة، يشاهد فقط ولا يشارك. كما تضايق حين لاحظ أن زميلته الجميلة، التي أعجب بها، لا تبالي به بسبب طوله. لكن هل معنى هذا أنه استسلم؟ يجيب بحسم: لا، رحتُ أبحث عن المقومات التي في أعماقي التي تجعلني أصل لأهدافي التي يصل إليها رفاقي لأنهم أكثر طولاً مني. قدمتُ الى رفيقتي وردة أعجبتها ففرحت هي بها ونجحتُ أنا في لفت نظرها. تعلمتُ أن في داخل كل إنسان مقومات مختلفة”.
زوجتي طويلة جداً…
كبُر غسان حلاق وتزوج بامرأة رائعة، طويلة جداً، وجميلة جداً. هي إنكليزية الجنسية وثقافتها الأوروبية جعلتها تنظر الى القوة التي في داخله لا الى طوله ويقول: “الثقافة تلعب دوراً. ففي السودان حيث ولدت كان الأطفال يضحكون عليّ، وبعضهم كان يدفعني ليرى إذا كنت سأقع بسبب قصري. أما في لبنان فالوضع بدا أفضل قليلاً وكان الناس ينظرون إليّ باستغراب، وكأنني إنسان آت من المريخ، ويتوجهون إليّ بكلمات تجرحني أحياناً. في حين كانت الثقافة الأوروبية مختلفة تماماً، وزوجتي تتحدر من تلك الثقافة، فلم تجد مشكلة في الإرتباط بي. أعجبتها شخصيتي القوية فأتت الى لبنان، في أحلك ظروف البلد، زمن الحرب الأهلية، وأصرت على أن تبقى الى جانبي”.
ولدان في رصيد غسان العائلي هما: شريف ونادين. ولديه حفيد يدعى نوح. ويقول “إبنتي كانت تتضايق في البداية من نظرات الناس إليّ فعلًمتها ما علمني إياه والدي يوم كنت صغيراً وبعض الناس ينظرون إليّ ويضحكون. قال لي: حين ينظر إليك أحدهم نظرة تزعجك أنظر في عينيه، في قلب البؤبؤ، واستمر في التركيز فيهما. وحينها سيحاول حجب نظره عنك. لكن لاحقه بعينيك لأنه سيعود وينظر الى الوراء ليتأكد من أنك أزحت نظرك عنه. لكنه سيشاهدك ما زلت تنظر إليه. لا تتكلم معه. لا تقل له أي كلمة. بل إستمر في التحديق في عينيه وحينها سيتعلم أنه أخطأ في نظرته نحوك”. وما علّمه إياه والده علّمه لابنته ونجح كلاهما به. الآن أصبحت ندى بعمر السابعة والثلاثين وهي جد فخورة بوالدها. أما ابنه الموجود حالياً في سلوفينيا فلم يبال منذ البداية بآراء الآخرين.
أكثر ما يُضاعف مشكلة من يولدون قصار القامة هو نظرة الناس إليهم، ومحاولة أهلهم إبعادهم عن النظرات السيئة من خلال حثهم على الإنزواء. والداه لم يفعلا ذلك بل جعلاه قوياً فخوراً بنفسه موقناً أن فيه قوة ليست في سواه. وهذا ما يتأكد منه كل من يجلس قبالته. فهو ذكي جداً وواثق بنفسه جداً وفخور بكل ما وهبه إياه الله. فالله يعطي كل كائن نعمة بدليل أن الصمم في حدّ ذاته نعمة لا يقدّرها إلا من عاش في ضجيج. والصحة أفضل نعمة والله وهبه الصحة.
في لبنان عدد ليس كبيراً من قصار القامة. لكنه حاول أن يمدّ اليد والعون الى هؤلاء ليعلمهم ما علمه إياه والده. ويقول: “يولد البعض قصار القامة بسبب تحول في جين معين. وهذا ما قد يحدث في أي بيت، في أي عائلة، وهناك قصير القامة يولد من بين كل خمسين ألف ولادة في العالم”. وهو تعرّف الى مجتمع يضم هؤلاء في أميركا باسم LPA (Little people of America) ويوم عاد الى لبنان فكر في إنشاء مجموعة مماثلة في لبنان لكن العدد هنا قليل. لكنه عمد الى الإتصال بأهالي هؤلاء الذين يسمونهم أقزاماً ودعاهم الى الإستثمار في قدرات أطفالهم المختلفين. عليهم أن يخبروا أطفالهم أنهم ولدوا هكذا وسيمضون العمر هكذا وعليهم أن يشاركوا في بناء المجتمع كما هم. ويتذكر الرجل القوي غسان حلاق أمراً آخر علمه إياه والده. قال له: “في طريق الحياة ستقع، قد تبكي، قد تتألم، لكن عليك أن تقف مجدداً لأن لا أحد سيساعدك على الوقوف إذا لم تفعل أنت ذلك”.
نجاح مهني وعائلي…
ولده شريف طويل القامة. إبنته نادين أيضاً. وحفيده نوح يملأ حياته. وهو يضجّ فرحاً في مختبره “سانت إيلي” في أنطلياس. ندخل الى مختبره فنشعر بمقدار الحبّ الذي يغدقه مع فحوصات الدم المخبرية. فالدكتور غسان الذي علمته الحياة قيمة النعم التي يغدقها الله على من يخال أنه خسر نعمة ما، استخدم “الحبّ” في نهجه، واستحق مختبره نيل أرفع شهادة إعتماد في أوروبا. فقصر القامة ليس معناه قصر العين والعقل. وحالته لم تمنعه من أن يكون المخّ القادر على اجتراح أفضل النتائج في هذه الحياة المليئة بالصعاب على أنواعها.
نراه يلقي التحية على المرضى. نراه مبتسماً دائماً على الرغم من كل ما قاساه من نظرة مجتمع مريض يخال أن الإنسان يُحدده الطول لا العقل. ويتذكر هنا ذاك الأب الذي كان يمشي في “المول” مع ولده فراح إبنه يقول له: بابا بابا ليش هالرجال هيك؟”. وكان الوالد يحاول إبعاد ولده وكتم فمه كي يسكت فاقترب منه الدكتور حلاق وقال للولد: “أنا هيك لأنو الله بيخلق ناس طوال وناس قصار وناس شقر وناس سمر”. فتدخل الوالد وقال له: “لا تؤاخذني هذا طفل وشكلك جعله يستغرب”. فأجابه حلاق “عليك أن تخبر ولدك أن الناس أجناس وأشكال وصفات وحالات بدلاً من أن تقمعه وتجعله يكبر معتبراً أن من هم أمثالي ليسوا كائنات بشرية”. من هنا تبدأ المشكلة ومن هنا تنتهي المشكلة. فثقافة المجتمع هي التي تجعل الدكتور حلاق ومن هم أمثال الدكتور حلاق مهمشين في حين أنهم يتمتعون بقدرات هائلة.
يبقى لسان حال الدكتور القصير القامة “لا تقل إني معاق مدّ لي كفّ الأخوة ستراني في السبق أعبر الشـوط بقوة”.
المصدر: نداء الوطن