كتب الصحافي يوسف بزي في جريدة المدن الإلكترونية المقال الآتي تحت عنوان “أربع رصاصات في الرأس”:
موجة الاغتيالات العنيفة والمدوية والمشهدية، المبتدئة بطنين من المتفجرات يوم 14 شباط 2005، انتهت في كانون الأول 2013 بتفجير محمد شطح بوسط بيروت. ثمان سنوات، كانت خلالها فرق الاغتيال هي التي تقرر مصير لبنان، أمنه وسياسته. هي السلطة المرعبة التي لا يقارعها أحد.
انتصر القتلة وانهزم المقتولون وصحبهم. وتغيّر وجه لبنان. ويمكن القول أن العنف والإرهاب، وعلى عكس ما يشاع، ينتصران في معظم الأحيان. يستطيعان تغيير مجرى التاريخ بسهولة دموية. ونادراً ما “ينتصر الدم على السيف”. والأندر أن تنتصر الكلمة على المدفع أو على كاتم الصوت. قد نستنزف تاريخاً كاملاً، قرناً برمته قبل أن نسجل انتصاراً للكلمة على المسدس. وغالباً بعد كلفة مليونية من الموتى.
يستهدف القتلة بالاغتيال ليس الضحية فقط، بل مجتمعه بأسره. القتل المحدد لفرد هنا، هو “إماتة” لعدد هائل من أشباه هذا الشخص القتيل، أصحابه، أقاربه، شركائه، مؤيديه، وكل متعاطف أو قريب أو مرشح لأن يكون مثله. هكذا يصير الاغتيال “إبادة” رمزية وسياسية. وبمعنى آخر يصير الاغتيال “تربية” لعدد هائل من الجمهور. بل أجيال بأكملها.
بعد تفجير مرفأ بيروت، بدأت حقبة جديدة بأسلوب جديد في الاغتيال. قتل بلا دويّ، بلا تفجير، بلا مشهدية، شبه سري وكتوم، يكاد يكون وفق نمط الجرائم الجنائية. قتل يتسم بالغموض، أشبه بحادثة منفردة وعارضة وشخصية.
لكن، مع ذلك “تطورت” أداة القتل في الجرائم الأربعة التي شهدها لبنان بين آب 2020 وحتى اليوم، من ضرب بآلة حادة على الرأس إلى كواتم الصوت التي استعملت لأول مرة في جريمة الكحالة (21 كانون الأول 2020). وهذا ما جعل القتل أقرب إلى عمل عصابات الجريمة المنظمة، على نحو متعمد، لعدم إضفاء الطابع السياسي عليها. خصوصاً أن الضحايا ليسوا وجوهاً سياسية بارزة. فيما التحقيقات الجنائية لم تسفر إلا عن صفر إجابة. طبقة جديدة من الغموض. انكشاف عن عجز أمني يضاعف من قوة الترهيب. قوة الجريمة في نشر الخوف وإماتة الجمهور.
اغتيال الكاتب والباحث والناشر والناشط السياسي والإعلامي لقمان سليم، أوضح سياسياً، ويختلف في دوافعه عن الجرائم السابقة. فإذا كان ثمة أسرار يجب محوها في عمليات القتل التي حدثت بقرطبا والكحالة وجونية.. فلا أسرار بتصفية سليم. إنه هدف “سياسي” معلن. واغتياله عمل “إرهابي” بالغ التأثير في مجتمع من “المعارضين” هم مثقفون وإعلاميون وناشطون سياسيون.
المرعب الآن، هي هذه العودة إلى حقبة كواتم الصوت، كأداة سياسية تستعمل ضد خصوم لم يعد يشكلون تهديداً فعلياً منذ سنوات طويلة. خصوم مهزومين ومستسلمين تقريباً وليس لديهم القدرة على تشكيل أي خطر على أصحاب القوة.
ولهذا السبب، منسوب الإرهاب في هذه الجريمة فائض في الترويع. وسيؤسس بلا شك لسيادة الخوف والصمت. فالقتلة يطمحون إلى أن يكون التعبير من الآن فصاعداً “مشذباً” في أحسن الأحوال، ومكتوماً في معظم الأحيان.
ما حدث لأحد الإعلاميين قبل أقل من شهر، حين تجرأ على “النقد البنّاء” وعلى إبداء رأي علني من موقع الحريص والصديق والمتفهم، تعرض لحملة مسعورة وللتهديد إلى حد اضطراره إلى كتابة بيان اعتذار ينزّ منه الخوف والخضوع.
بين مثال أربع رصاصات في الرأس وبيان الخضوع، ندخل في حقبة مظلمة ستكون مديدة وأشد قسوة مما اختبرناه حتى اليوم.