كتبت الصحافية نوال نصر في موقع “نداء الوطن” مقالًا تحت عنوان: لن يتنحّى إلا إذا طلبت منه الدولة اللبنانية، القاضي طارق البيطار:” إما أن أنجح وإما أن أنجح” والملف شارف على الإنتهاء.
وقد جاء في هذا المقال:
365 يوماً على إنفجارٍ لم نتوقع مثله حتى في أشد الكوابيس رعباً. و175 يوماً على 9 شباط، يوم استلم إبن عيدمون القاضي طارق بيطار ملف جريمة مرفأ بيروت من سلفه القاضي فادي صوان. لم يحسده أحد. فالمهمة تبدو، لمن يعرف لبنان و”فجور” كثير من سياسيي لبنان، مستحيلة. لكنه، وهو القائل في البداية: أبعدوا عني هذا الكأس”، عاد وتجرعه باسمِ تحقيق العدالة اللبنانية. فهل سيتمكن من فرض العدالة؟ هل في الكأس سمّ؟ كل الشعب قال له: “معك”. فهل يكفي الدعم الشعبي ليعبر “الأفخاخ” ويتابع وهو العامل بمقولة: إما أن أنجح وإما أن أنجح؟
ليس سهلاً أن يجد قاض شاب، في السابعة والأربعين، نفسه في مواجهة “الغيلان” الكثيرة المحيطة بملفٍ شائك ملقى على منكبيه ويظل يقول: “العدالة ثمينة جداً حتى ولو كلفت غالياً”. هو اليوم، بحسب عارفيه، لا يأكل طوال النهار ولا يشرب “فالعمل كثير. وهو يعاني، لكثرة جلوسه الطويل للقراءة في الأوراق والمستندات، آلاماً مبرحة في الظهر. إنه كمن يمشي وحيداً في البرية ومعه أربعة مساعدين فقط، أربعتهم دخلوا السلــك القضائي حديثاً. يجهل عارفوه إذا كانت “الإنسانية” الفائضة فيه تفيده أم لا لكنهم يذكرون أنه من المؤمنين تماماً بعدم إمكانية “أن يكون المرء عادلاً ما لم يكن إنساناً”. هو يحفظ أسماء قتلى الإنفجار واحداً واحداً. ويتابع، من بعيد الى بعيد، ودائماً بحسب معارفه، أحوال أهلهم.
تزوج عن حبٍّ من جارة بلدة عيدمون جولي حاكمه (إبنة القبيات) ورزقا بولدين هما كريستينا (13 عاماً) وإيلي (9 سنوات). كريستيل العضم التي قتلت في الإنفجار إسمها يكاد لا يغيب عن باله. إسمها يشبه قليلاً إسم إبنته. أسماء أخرى لا تغيب عن باله: الياس، ألكسندرا، إسحق. هم أطفال اعتقدوا أنهم في أكثر الأمكنة أماناً. في منازلهم.
هو إبن فايز البيطار، الذي أنجب خمسة أولاد، كبروا في طرابلس، في بيئة متواضعة، وأورث أولاده الخمسة “الإنسانية ثم الإنسانية ثم الإنسانية”. لسنا نبالغ في ذلك.
فكل من يعرفونه يُجمعون على هذه السمة التي فيه. كثيرون يسألونه: غريبٌ ألا تُستفزّ من كل ما تتعرض له؟ ووحدها إبتسامته الهادئة تجيب هؤلاء. هو لا يُستفزّ لكنه يشعر بالغبن أحياناً. وهذا ما مرّ فيه حين سمع أنه التقى سليم جريصاتي في القصر الجمهوري. هو يسمع “فبركات” كثيرة عنه فهل يردّ أو لا يرد؟ يعيش هذا التجاذب لكنه يقرر دائماً ألا ينظر إلا الى الأمام. عارفوه يعرفون أنه لم يزر قصر بعبدا يوماً في حياته. وهو لم يلتقِ يوماً بالرئيس ميشال عون وجهاً لوجه.
أما سليم جريصاتي فرآه مرة واحدة يوم عُيّن وزيراً للعدل، في تهنئة عامة. ويُنقل عنه قوله: لم أجتمع بسياسي في حياتي، حتى جبران باسيل الذي قيل في البداية، يوم التشكيلات، أنه محسوب عليه فلم يلتقِ به في حياته ولم يحصل حتى ولو إتصال واحد بين الإثنين. مرّة واحدة فقط حصل، في النيابة العامة في الشمال، إشكال غير مباشر بين الرجلين في ملف. وما عدا ذلك لا شيء بين الطرفين.
هو لا يعرف كيف يُقفل بابه في وجه أحد لكنه يرفض الكلام، في المطلق، في جديد قضية جريمة المرفأ. وموظفو قصر العدل يحكون عن خصاله ويُسهبون. وهو يستقبلهم بالـ”أهلاً وسهلاً” ويرافقهم عند المغادرة الى الباب. قدماه على الأرض. وأكثر المحامين فظاظة إذا سُئل عن القاضي الذي يُفضل لو يحكم في قضية يتولاها لقال: طارق بيطار.
وتشرح محامية هذه النقطة بقولها: هو يحترم الجميع. حتى من يمثل أمامه. يُعامل المتهم على أنه بريء الى حين تثبت إدانته. إحدى المرات طلبت إحدى عاملات التنظيف أن تطرح عليه سؤالاًِ فاستقبلها على الباب وجلس معها وشرح لها ما تريد وودعها بابتسامته الهادئة. فخرجت مليئة بفيض من الفرح مرددة أمام جميع من في القصر: الآن علمت سبب تميّز هذا القاضي. هو مستمع جيد جداً. وتعاليمه واضحة: تمرير الملفات يومياً حسب الأولوية التالية: الضباط لهم اولوية وذوي الإحتياجات الخاصة والمحامون الكبار في العمر والنساء الحوامل.
تتذكر إحدى رئيسات القلم أن النقيب عصام كرم كان يُقدم دائماً أمامه محاضرات تبدأ ولا تعود تنتهي. فقامت بإرجاء ملفه قليلاً. وحين رأى كرم سألها: أين ملفه؟ يرفض القاضي بيطار تأمين راحته على راحة الآخرين.
قضية قتل عاصمة
سُئل مرة: أنت تستلم قضية أكبر حتى من قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري فأجاب: أنا أستلم قضيـة قتل عاصمة. هو كاثوليكي، أما زوجته مارونية، وحين يتحدث بلغة البلد الطائفية يقول عن نفسه مبتسماً: أنا ماروني مكسور سمه. قليلة هي المرات التي يبتسم فيها. فحيثيات القضية التي يحملها تجعل الإبتسامة مستحيلة.
الإعلام العالمي يتصل به يومياً. شبكة الـ “سي أن أن” والتلفزيون الفرنسي لكنه يصرّ على عدم الظهور الإعلامي. فالإعلام قد يؤذي أحياناً أكثر مما يفيد. ويُنقل عن مقربين منه أمنيته لو كان يستطيع ان يطل على “المتألمين” من اللبنانيين وكم هم كثيرون ليُعلن تباعاً التطورات في قضية العصر.
ويتابع هؤلاء “أن التحقيق قد وصل الى خواتيمه، الى أكثر من 80 في المئة من مساره، وظهرت فيه حقائق كثيرة لجهة من أسماء من أتوا بالنيترات ومن أبقوها ومن أخذوا منها وإذا أراد أحد نقل الملف من يده الى “القضاء الدولي” أو أي قاض آخر يكون قد أخذ الملف شبه كامل.
هو انطلق فيه من النقاط الأقل حراجة، التي لا تعيق مساره، ووصل حالياً الى النقاط الشائكة أكثر التي تقتضي إستجواب مسؤولين تحت حجة الحصانة. وهنا تكمن قمة المشكلة في البلد. فالأسماء كثيرة والإعتراضات ستكون أيضاً كثيرة. وكم تمنى لو كان ممكناً تعديل القوانين والسماح لقاضي التحقيق أن يقول كل شيء. وأن يستطيع أن يقدم لأهالي القتلى والمتضررين أجوبة نهائية في 4 آب هذا.
يُنقل عنه انه سيستدعي كل من يرى في إمكانه كشف قطب مخفية في القضية. والأسماء كثيرة. لكن الحصانات تُشكل سدّاً. ولا يمكنه أن يتخطى الحصانة النيابية مثلاً إلا بقرار من المجلس النيابي ضمن دورة إنعقاد المجلس أما بعدها فحديث آخر. الجميع يفترض ان يمثلوا أمامه إذا استدعاهم ووحده رئيس الجمهورية يفترض إذا ارتأى أن يزوره لسؤاله كشاهد. حتى رئيس الحكومة يفترض أن يمثل أمامه إذا استدعاه كمدعى عليه.
في كل حال، لا تمرّ أي معلومة أمام قاضي التحقيق ويهملها، بل يعمل على تأكيدها أونفيها بالسير بها. لذا من المفروض ان يستمع الى كل من يرى ضرورة الإستماع إليه. وليس كل من يستدعيه للإستماع له ضلع في الجريمة لكن الإحاطة بالملف كاملاً يقتضي ذلك حتماً. هنا، يُنقل عنه قوله ان المعرفة بوجود النيترات وعدم فعل شيء هو مسوؤلية شخصية. حين يجلس القاضي على كرسيه يكون ملكاً أما حين يبتعد عنها فهو مجرد “نملة”. هذا ما قاله الى قضاة زاروه. وهو استغرب اليافطات التي ترفع مكتوب عليها “وحدو طارق بياخد بيطارنا” ( بثأرنا) فهو القاضي اللبناني الذي حمل أقسى ملف في تاريخ لبنان وعليه تبيان الحقيقة كاملة. والحقيقة هي التي تأخذ “بالتار”.
تبدلت حياته كثيراً بين قبل واليوم. صحيح أنه لم يتعرض مرة الى تهديد مباشر حتى في أكثر القضايا “الضخمة” التي حكم بها. هنا تتحدث محامية عن إصراره على الجلوس على قوس المحكمة حتى ساعات متقدمة ليلاً من اجل ألّا يبيت “بريء” في السجن. أحد المحامين لامه لأنه أخذ قراراً مشدداً بحق وكيله الذي كان تحت تأثير الكحول فأجابه: لا، هو شرب كأس بيرة واحدة وقتل ضحيته عمداً بسكين مسننة وراح يلبطه بشدة أمام زوجته الملتاعة التي تناديه بالقول: دخلك إرحمه عنده اولاد”.
لا يحتمل هذا القاضي التصرفات اللاإنسانية أبداً. ملفات صعبة لم تكن حياة القاضي طارق بيطار سهلة أبداً في القضاء. لكن، هذا الملف، ملف جريمة المرفأ، هو أكثر صعوبة. هو سبق وحكم في ملفات إرهابية، في جبل محسن والتبانة وقضية حاموش وقضايا خطف. وأصدر أحكاماً بخمس عشرة سنة سجن.
أما قضية الطفلة إيلا طنوس فالحكم فيها، الذي اعترض عليه الأطباء بشدة، فهو راضٍ عنه تماماً. وهو لو عاد الى الوراء لأخذه نفسه. فهذه الطفلة تعرضت لخطأ طبي، هو طبعاً غير مقصود، كمن يصدم إنساناً ربما في الشارع عن غير قصد، لكن الطفلة تستحق تعويضاً عما أصابها. وهو تعويض محق صدر على مستشفيين وطبيبين. لكن مشكلتنا في لبنان أن الطبيب هنا يرفض أن يدفع الى التأمين أكثر من مئة دولار عن الخطأ الطبي في حين يُدفع في الخارج 10 آلاف دولار للتعويض عن أي خطأ مماثل.
لفلفة هذه القضية، وأي قضية، محال أمامه. وهو استند الى حكمه على شهادات ثمانية أطباء. وهو لم يُفكر حين أصدر حكمه إلا بإيلّا التي ستعيش طوال العمر حياة ولا أصعب. صعبٌ على قاض يريد أن يحكم بالعدالة أن ينام. هو كان ينام باكراً، عند التاسعة والنصف مساء ويستيقظ نحو الرابعة والنصف فجراً، لكنه اليوم يكاد لا ينام.
القاضي طارق بيطار الذي رفض إستلام ملف جريمة المرفأ في البدايات، عاد وقبل به بعد تنحي القاضي صوان، ينظر في عيون كل من يقول له: هل تتوقع أن يتركوك تحكم في هذا الملف؟ هو يجيب: من كان الله معه لا يخاف من أحد. ليس نادماً على استلامه الملف اليوم. وهو لن يتنحى عنه إلا إذا طلبت منه الدولة اللبنانية ذلك.
فحق ألكسندرا والياس وإسحق و206 ضحايا أمانة لديه. وهو يقول أمام زواره “رح أعمل الماكسيموم وأشك أن قاضياً أجنبياً سيقوم بما يقوم به قاض لبناني”.