تقرير نشرته جريدة النهار عن رحلة المصور الصحافي اللبناني الفرنسي جاك داباغيان في الجبل مع المشايخ الدروز، ماذا يقول عنهم، وكيف حاول أن يعرّف الناس عليهم بعدسة الكاميرا من خلال معرضه للصور تحت عنوان: “سادة الأسرار” الموجود في بيت الدين.
لم يكن جاك داباغيان المصور الصحافي اللبناني الفرنسي، قبل اليوم، يملك أية فكرة عن مشايخ الطائفة الدرزية، سوى أنهم أناس أقوياء وأصحاب شخصية حديدية وطلة مهيبة، كرماء ومتدينون، خاوت تعابير وجوههم قساوة الجبل وعنفوانه، قوتهم في أنهم كتلة مجتمعة بإحكام، وفي الشدائد التي تهدّد مصيرهم تصبح قبضتهم واحدة.
بحكم عمله الصحافي إبان حرب الجبل في ثمانينيات القرن الماضي، كان جاك داباغيان حين يصل إلى مناطق تواجد أبناء الطائفة الدرزية يعتقد، وهو المسيحي من منطقة الأشرفية في بيروت، أنهم بأزيائهم وعاداتهم، من عالم غير عالمه، وأنهم من كوكب آخر. وقد اعترف داباغيان فيما بعد أن كل الطوائف في لبنان كانت وبفعل الحرب قد أقفلت أبوابها أمام الآخر لدواعٍ تتعلق بوجودها التاريخي في المنطقة التي تعرّضت للعديد من الغزوات، ودفاعاً عن أراضيها وأملاكها.
بقيت فكرة الرجل الدرزي القوي الصامد في أرضه، بأزيائه المميزة وتقاليده وثقافته، سرّاً لا يعرفه هو وكثيرون غيره. فضول المهنة لديه دفعه إلى البحث عن كيفية دخوله الفوتوغرافي إلى هذا العالم الذي يحتفظ بتقاليده وبثقافته له وحده، والمقفل أبوابه منذ مئات السنين أمام كاميرات وعدسات المستشرقين حينها، حامياً من فضولهم تاريخاً طويلاً فيه جولات من الحروب والسلم، وثقافة جبلية محورها الحفاظ على الأرض والعرض والكرامة والزيّ الديني، وفكراً دينيّاً يكتنفه الغموض ولا يعرفه سوى العقّال من أبناء الطائفة.
المصور داباغيان فاتَح السيدة نورا جنبلاط برغبته في التقاط صور لمشايخ طائفة الموحدين الدروز في لبنان. لم تمانع زوجة سيد الجبل ورئيسة لجنة مهرجانات بيت الدين من القيام بالمهمة، وتنسيق الأمر مع رجال الدين. إن التاريخ البشري الفوتوغرافي “بخيل” بحقهم. وبمساعدة من مدير المركز الثقافي الفرنسي في دير القمر “Sid Rouis” الذي كان داباغيان قد التقاه من قبل وأفشى له أيضاً برغبته هذه، سهّل له الأمر بالتنسيق مع السيدة نورا جنبلاط، وجمعه ببعض المشايخ من جمعية العرفان وبالشيخ الجليل سامي أبو المنى، الذي بدوره طلب منه أن يفسّر له عبر ” العرض المصور” عن رغبته وأهدافه من فكرة تصوير مشايخ وأبناء الطائفة الدرزية، ولماذا الإضاءة الآن على ثقافتهم وتقاليدهم.
بعد اللقاء مع مشايخ العرفان، قام المصور داباغيان بجولة على قرى الجبل والتقى العديد من المشايخ هناك، مكوّناً اللبنة الأولى لمشروعه الفوتوغرافي، وتعرّف عن كثب على مشايخ وأبناء طائفة الموحدين: هم أناس طيبون ويرحبون كثيراً بالضيف واستقبالهم جميل وفيه ودّ كبير، لكن في الوقت ذاته لديهم الكثير من الأسئلة حول ماهية الفكرة والأهداف التي يبتغيها من وراء عملية التصوير هذه.
الأبواب فتحت أمامه للدخول إلى الجبل والتقاط الصور. بدأت الأسئلة تضج في رأسه، جاك داباغيان مصور لا يريد التقاط صور كلاسيكية، هل ينجز مهمته بالتقاط الصور عبر تقنية “الديجيتال” أو عبر استعمال “الفيلم النيكاتيف”. الإذن صار في الجيبة، لكن التقنية الفوتوغرافية لم تصبح في اليد بعد.
لا بد من البحث عن أية تقنية فوتوغرافية لاعتمدها في إتمام المهمة. أمضى جاك داباغيان أكثر من ثلاثة شهور في باريس متنقلا بين بنوك الصور فيها ومؤسسات التأريخ والتوثيق والأرشفة بحثاً عن صور لمشايخ دروز، ومعرفة كيفية التقاطها ونوعيتها، كي لا يصوّر مثلها. فكرته قائمة على عمل جديد لم يقم به من قبل أي مصور آخر. وخلال عملية البحث يكتشف أن لا صور لأبناء الطائفة الدرزية في خزائن الصور في فرنسا وأوروبا سوى بعض الصور النادرة التي لا تتعدى أصابع اليد. حاول داباغيان البحث في المحرك الإلكتروني عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي في الشرق، وعن المصورين الأوائل الذين جالوا في البلاد العربية ومنها لبنان علّه يتكشف شيئاً ما يساعده في تبلور فكرته. خلال بحثه عرف أن المصور الفرنسي “فيليكس بنفيس” كان من أوائل المصورين الذين وصلوا إلى لبنان، وافتتح في بيروت سنة 1867 أول أستديو تصوير فوتوغرافي، إضافة إلى مصورين آخرين، وأنهم لم يلتقطوا سوى صور قليلة لأبناء الجبل ومشايخه.
الجهد المضني في البحث عن كيفية تنفيذ مهمته تقنيّاً لم يتعب داباغيان ويحبط من عزيمته. اكتشف خلال بحثه على الإنترنت أن في القدس فندقاً يعرض على جدرانه عشرات الصور القديمة لمناظر طبيعية لمدن وقرى فلسطينية ولأهاليها وسكانها، والتي التقطت ما بين عامَي 1860-1910. اتصل بمدير الفندق الذي أخبره بأن الصور المعروضة على الجدران التقطت بكاميرات الآباء الدومينكان، وقد زوّد مدير الفندق المصور داباغيان برقم هاتف الآباء وعنوانهم البريدي. ومباشرة من منزله في باريس اتصل داباغيان بالأب المسؤول عن مؤسسة الآباء الدومينكان في القدس الذي أخبره، بعد البحث في أرشيفهم الفوتوغرافي، أن ما تبقى لديهم قرابة “44” ألف صورة “على ألواح زجاجية” التقطت ما بين عامَي 1850-1920، ولا وجود فيهم لأي شيخ درزي. كان جواب الراهب الكاثوليكي للمصور جاك مفتاحاً لفكرته، وهي التقاط صور بالتقنية ذاتها التي كانت سائدة آنذاك في الفترة التي تلت العام 1850 والمعروفة شعبياً بـ”الصورة الزجاجية”، وتقنياً بـ”سائل الكولوديون”. وذلك لملء الفراغ الحاصل في الأرشيف البصري البشري عن هذه الطائفة.
الفكرة اكتملت وأصبحت جاهزة للتنفيذ. التقاط صور لمشايخ وأبناء من طائفة الموحدين الدروز بلباسهم التقليدي وبذات الظروف المناخية وبالتقنية التي كانت سائدة حينها، وكأنها التقطت ما بين العام 1860 والعام 1910. و”الأسباب التي دفعتني لاعتماد التقنية القديمة أنها طائفة دينية معروفة حافظت على تاريخها الطويل في المنطقة ولم تغيّر كثيراً مع مرور الوقت في طريقة حياتها التقليدية، وممارسة طقوسها الدينية بزهد وصدق وتأمل وتقرب من الخالق. وكأنني التقط الصّور في حينها كونهم كانوا وقتها مجموعات لا ترغب في أن تُلتقط لها الصور الفوتوغرافية لأسباب أهمّها دينية. وأعتقد أن لا معنى تاريخياً للصور لو أنها التقطت بتقنية اليوم”.
قبل المباشرة بتنفيذ المهمة، كان على جاك داباغيان الحصول على جواب مقنع لنفسه كي تكتمل الصورة. لماذا لا يوجد صور لأبناء الجبل ومشايخ الطائفة في ذلك الوقت بالرغم من وجود عدد من استديوهات التصوير حينها في بيروت؟ للحصول على الجواب المقنع التقى داباغيان في باريس بالسيدة إيزابيل ريفوال الحائزة على دكتوراة في الانتروبولوجيا، وتتكلم العربية، وجاء في أطروحتها عن الطائفة الدرزية: لطالما ارتبط دروز الشرق الأدنى بفكرة الغموض والنبل المفرط والانكفاء إلى الجبال. وساهم استشراق كل من لامارتين ودو نيرفال إلى حد كبير في بناء هذه السمعة. وتتميز هذه الطائفة الصغيرة باتّباع نهج ديني قائم على التأمل والزهد وسرّ المعرفة. ويكون التقرّب من الخالق عبر السكون والانسحاب من العالم. وبالتالي الدين هنا هو فضاء لهذا المجتمع الدرزي الذي يؤمن بالزواج من داخل الطائفة فقط، ويبقى بعيداً عن الآخر بأدب ولباقة وكرم حيال الزائر والغريب.
تشكّل الأخلاق الدينية للدروز طريقة عيشهم. وأي شخص حضر اجتماعاً دينياً لـ “الموحّدين”، كما يسمون أنفسهم، لن ينسى أبداً هذه الأزياء المميزة: عباءات سوداء أو زرقاء للرجال الذين تكون رؤوسهم الحليقة مغطّاة بلفّات بيضاء، فيما وجوههم تزيّنها بفخر شوارب على طريقة “نيتشه”، أو لحى الحكماء. أما النسوة فيرتدين أثواباً طويلة، وتغطي أفواههنّ أحجبة بيضاء تشبه عمائم الرجال. الموحدّون الدروز يعكسون قيمهم في مظهرهم وتعابير وجوههم وقلة الكلام في الدين ما يجعلهم طائفة مميزة تجذب عدسة الفنان”.
الدكتورة ريفوال توصلت في أطروحتها إلى أن المصورين الأوائل الذين جالوا في منطقة الشرق الأوسط كانوا من مصوري الآباء الدومينكان الذين كان معظمهم يمتهن التصوير، وكل منهم كان لديه اختصاصه، منها المناظر الطبيعية والأماكن الأثرية، والبورتريه والأحداث السياسية. أضافة إلى الآباء الدومينكان كان هناك نوع آخر من المصورين وكان يطلق عليهم بالإنكليزية “Travelling Photographers”، يتنافسون في ما بينهم على بيع صور “الكارت بوستال” “Carte postale”. وهؤلاء كانوا تجاراً يبغون جني المال أكثر من أرشفة التاريخ والبشر. وتابعت ريفوال قائلة إن أكثرية الآباء الكاثوليك كانوا يقصدون المدن والقرى على الساحل ليلتقطوا الصور ويتحاشون سكان الجبال المرتفعة لصعوبة الوصول إليها لانعدام الطرق ووسائل النقل. كان سكان الجبال العالية في لبنان جلّهم من الطائفة الدرزية. بصراحة خاطَبت الدكتورة ريفوال المصور داباغيان قائلة له: أريدك أن تتخيّل نفسك مصوراً فرنسياً في العام 1850 تقود أكثر من عشرة “حمير” يحملون لك كل ما تحتاجه من كاميرات ومعدات ومواد كيماوية في رحلة تستمر يومين أو ثلاثة لالتقاط صور، وحين تصل يمنعك شيخ درزي من التصوير لدواعي دينية. ماذا تكون ردة فعلك؟! أعتقد أنها من أهم الأسباب التي منعت المصورين من الصعود إلى الجبال لالتقاط صور له ولأهله. ولا تنسَ، قالت ريفوال، أنه في تلك الفترة كان سكان الجبل في لبنان قد خرجوا للتوّ من صراع دامٍ بينهم وبين الموارنة ما بين الأعوام 1840-1845.
خطوة المصور جاك داباغيان جريئة جداً لم يسبقه إليها أي مصور آخر مهما كانت جنسيته، جاك اعتمد تقنية العام 1850 الفوتوغرافية في التقاط صور مشايخ طائفة الموحدين الدروز، والتقنية السائدة حينها كانت تعتمد أسلوب “الكولوديون الرطب” وهي عملية تؤدّي إلى الحصول على لوحة زجاجية سالبة عن طريق طلائها بمواد كيميائية تتكوّن من نترات السليلوز المذابة في خليط من الأثير والإيثانول. وبعد وضع المزيج على اللوحة، يتم غمرها في مغطس من نترات الفضة فيصبح حساساً على الضوء، عندها يتمكن الفنان من التقاط الصورة بتقنية وجودة عالية.
أمضى داباغيان أكثر من شهر وهو يفتش عن “كاميرا العام 1850″، وعن موادّها وعدّتها. جميع الكاميرات القديمة الباقية والمعروضة كانت شبه ميتة، تحتاج إلى صيانة مكلفة وغير مضمونة العمل. ثم إنها غالية الثمن كثيراً. الفكرة يجب أن تبصر النور والمباشرة فيها بأسرع وقت. الفشل عند جاك ممنوع. “اللقمة وصلت للتم”. موافقة السادة المشايخ والمسؤولين الدينيّين عن الطائفة صارت في الجيبة. تقنية التصوير حُددت وصارت أيضاً في اليد. ما نريده هو الكاميرا. كاميرات باريس القديمة لم تشف طلب جاك، قصد داباغيان شركة فيراري في إيطاليا، مدير الصيانة فيها يصنّع نسخاً لكاميرات قديمة، بمعدات حديثة وصالحة للعمل مباشرة، ثمنها بضعة آلاف من الدولارات. الكلفة ليست مهمة. فيراري لبّت طلبه. والمواد الكيماوية صارت في حقائبه. كل الظروف متاحة الآن لإنجاز المهمة، مقدِّراً كثيراً مبادرة الانفتاح التي قدّمها له السادة المشايخ بالاستعداد للوقوف أمام كاميرته لالتقاط الصور.
اقتنى جاك داباغيان سيارة كبيرة لتنفيذ مهمته، وحمّلها كل ما يحتاجه. السيارة بدل “الحمير” أو بديلاً من حصان يجرّ عربة. ففي “عربته السيارة” خزّن جاك ألواحه الزجاجية وكمية كبيرة من مادة لزجة تدعى “محلول الكولوديون”، إضافة إلى أكياس من أملاح نترات الفضة الحساسة للضوء والتي توضع على الألواح الزجاجية لالتقاط الصور. إضافة إلى مواد كيماوية أخرى، وأوانٍ لوضع المحلول فيها، وإلى كميات كبيرة من المواد الصالحة لإنجاز عملية التصوير، مع ساتر أسود “عبارة عن كيس أسود” عازل للضوء، وغرفة مظلمة مغطاة، وكاميرا على حامل خشبي ثلاثي القوائم. أضافة إلى برّادين اثنين فيهما ثلج لتبريد المواد الكيماوية منعاً لانفجارها بفعل ارتفاع دراجة الحرارة بشكل يتعدى الـ 33 درجة مئوية.
السيارة امتلأت حتى الجمام، ماذا يريد جاك؟ الحصول على صور تشبه النوعية التي كانت سائدة منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً. التحدي منحه القدرة على تحمل الجهد المضني. كل صورة سيلتقطها ستحمل تاريخ الجبل، وكل لقطة ستحفظ سحر ثقافة الجبل وطائفته الموحدة. براعة داباغيان أنه نجح في أن يتقمّص عمل مصور فرنسي يتجول في قرى الجبل في العام 1850 حاملاً على قافلة من الأحصنة أو الحمير معداته التصويرية ومواده الكيماوية، متجولاً في قراه ليضم إلى أرشيف التاريخ البشري الفوتوغرافي صوراً لرجال لم يحصل تاريخهم المجيد على فرصة الإضاءة عليه منذ عشرات السنين، وكذلك تأريخ فوتوغرافي لثقافتهم ولعاداتهم أسوة بباقي الطوائف الأخرى في لبنان والمنطقة، وحفظ زي وعادات أناس طيبين حملوا في فترات عديدة لبنان وجباله على أكتافهم، ودفعوا الكثير من الدم حفاظاً عليه، وسطروا بالدم حروف الكرامة والعزّة والعنفوان والصمود، لذلك استمروا بلعب دور الحامي للجبل وللبنان، دور الرجال الأشداء وأصحاب الشخصيات الحديدية والطلة المهيبة، والبيوت المفتوحة للضيف.
عمل جاك دبغيان “JACK DABAGHIAN” مصوراً أساسياً ومديراً لقسم الشرق الأوسط في وكالة “رويترز”. عمله استمر لمدة 30 سنة في خدمة الصحافة والصورة الفوتوغرافية. على مدى أكثر من 20 سنة غطّى داباغيان نزاعات عدة: لبنان، فلسطين، إيران/العراق، رواندا، زائير، الجزائر، العراق… ونُشرت صوره في مطبوعات عالمية، منها على سبيل المثال: “نيوزويك”، “تايم ماغازين”، “باري ماتش”، “ذي إيكونوميست”، “ذي إنترناشونال هيرالد تريبيون”، “نيويورك تايمز”…بعد أكثر من 30 عاماً من العمل في الصحافة، قرر سلوك طريق مختلف تماماً، فاتّجه نحو الإنسان وحقيقته، ليقدّم لنا رؤيته للعالم المعاصر. إنه يركّز الآن على تركيبة مجتمعاتنا المعقّدة وعلى الثراء الثقافي على الرغم من انتشار العولمة.
يَفتتح معرض الصور أبوابه نهار الثلاثاء في 16 من شهر تموز 2019 ، عند الساعة السادسة مساء في الجناح الشرقي من قصر بيت الدين من ضمن فعاليات ليالي مهرجان بيت الدين لهذا العام.
ساهم في تنظيم هذا المعرض:
– مهرجانات بيت الدين
– المركز الثقافي الفرنسي في دير القمر
– اللجنة الثقافية في المجلس المـذهبي لطائفة الموحدين الدروز.
المصدر:النهار