كريستال سلامة شابة ولدت برجلٍ قصيرةٍ لم تمنعها من الوقوف على خشبة المسرح وتحقيق حلمها بالتمثيل
كتبت الصحافية ريم حرب على موقع نداء الوطن مقالةً تحمل العنوان التالي:
كريستال سلامة تعشق التمثيل.. تتحدّى المرض وتحارب التنمّر
المجتمع همّشني بسبب رجلي القصيرة… فقلت له “عإجري”
وقد جاء في المقال:
في عينيّ كريستال سلامة حب للحياة وشغف بالتمثيل. في ابتسامتها فخر بكلّ ما أنجزت، ولمعة إنتصار بكل المعارك التي خاضتها. في قلبها سلام وإيمان بالخالق الذي ميّزها لتكون رسالة في مجتمع يخشى الإختلاف، لكنه مجتمع حزين، خائف ومعقّد. في يديها أفكار وأحاسيس صامتة. أما في قدميها، فتكمن المشكلة إذ إن القدم اليمنى أقصر من القدم اليسرى منذ الولادة، ما اضطرها للإستعانة بجهاز ينتعل في الرجل القصيرة ويمنحها طولاً زائداً موازياً لشقيقتها يساعدها على التوازن في المشي.
في الرجل القصيرة تحديداً تركض سلامة نحو أحلامها، وبها تقف على خشبة المسرح او امام عدسات الكاميرات، تحت الاضواء، لتبرع، متجاهلةً ومتخطية واقعها الصعب. تقف شامخة فخورة مبتسمة لتسمع تصفيق الجمهور، تصفيقاً مصحوباً بأصوات تعلو وتهتف: “برافو” “شو شاطرة” “شو قوية”!!!
تصفيق مجتمع فخور بإبنته التي واجهت الموت عشرات المرّات، إذ ولدت كريستال مع مرض اسمه “spina bifid”، حيث يكون النخاع الشوكي للمريض خارج ظهره.
صحيح أن المرض نجح في أن يسلب من كريستال توازن القدمين، لكنه لم ينلْ من حبّها الحياة، وشغفها بالتمثيل وصلابتها أمام تهميش المجتمع لها وتنمّره. من ضعفها استولدت قوة. تجاهلت نظرات الخبث أو الشفقة على “خلقة ربنا”، وقررت المضيّ قدماً على الرغم من شكوك صديق أو حبيب أو مخرج أو منتج، عجز عن رؤية قلبها أو سماع أفكارها أو الاستمتاع بموهبتها، بل حصر تركيزه على ثلاثة: القدم القصيرة، الجهاز، وعلى الكرسي المتحرّك.
معارك وجبهات
كريستال سلامة ابنة الـ29 عاماً، من فاريا، هي كبيرة عائلة مؤلّفة من ثلاث فتيات. ولدت وسط تعجّب الأطباء حين رأوا نخاعها الشوكي خارج ظهرها المفتوح. أمضت طفولتها بين غرف العمليات، تتنقّل من مستشفى الى آخر، من زيارة طبيب الى لقاء متخصّص. هي شابة وضعها الله في المكان المناسب، بين ذراعي وقلب والدة أقلّ ما يقال عنها إنها “جبارة بأس”، فربّتها على الثقة بالنفس وحبّ الذات والإيمان بأنّ “في ضعفنا تكمن قوة الله”.
تتحدّث كريستال بثقة عن حالتها وتقول: “تعلّمتُ منذ صغري أن أواجه التنمّر. كنتُ أبكي أمام نظرات الناس وأصابعهم التي تدلّ على رجلي. لكن مع الوقت لم أعد أتأثر وصرت أقول… عإجري”.
كريستال المفعمة بالحياة والتي تسخر اليوم وتضحك على جهل المجتمع وسخافته، وجدت نفسها في خلال طفولتها تخوض معارك على أكثر من جبهة، فواجهت الأوجاع الصحية والنفسية وإليها أُضيفت العوائق التعلّمية، لكون المدارس في لبنان غير مؤهّلة لاستيعاب الحالات الخاصة. فاضطرّت الى التنقّل بين مدارس عدة، الى أن أصبحت والدتها أميرة سلامة معلّمة في مدرسة الأنطونية في عجلتون حيث تسجّلت كريستال، هكذا بقيت الوالدة الى جانب ابنتها، ترافقها كظلّها، تحملها على كرسي صغير من طابق الى آخر.
درب الآلام
كبرت الفتاة الموهوبة التي عشقت الكاميرا والتمثيل منذ صغرها شاركت في مسرحيات المدرسة وهي قاعدة على كرسيّها الملوّن، وكبرت معها الأحلام والآمال. لكن الأوجاع أبت إلا أن ترافق مسيرتها، فكلّما اطفأت شمعة عيد ميلادها، أضاءت شمعة ألم جديد.
فقد أصيبت بقصور في الكلى في عمر الـ19 عاماً. وبعد مسيرة طويلة من العلاج واتباع نظام غذائي محدّد، بدأت برحلة غسيل الكلى في عمر الـ24 عاماً، حيث تتلقى علاجها ثلاثة أيام في الأسبوع.
إضافة الى إصابتها بفيروس psoriasis أي الصدفية، وهو مرض جلدي أثّر على الدورة الحياتية لخلايا الجلد، وأفقدها شعرها الكثيف الجميل، وكادت أن تصل الى الموت المحتّم لولا تدخّل القديسة رفقا التي شفتها.
آه عندك أصحاب؟
حين نسأل كريستال عمّا وراء إبتسامتها وشخصيتها القوية، تستذكر كلّ النظرات الجارحة، كلّ الكلمات والعبارات التي يصعب محوها، كلّ الأسئلة الغريبة التي تعرّضت لها مثل “آه عندك أصحاب؟”.
تستذكر الشباب الذين أعجبوا بها من خلال صورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ثمّ “هربوا” حين علموا بوضعها. تستذكر الدموع التي ذرفتها مع كلّ خيبة أمل بإنتهاء قصة حب حلمت بها، وتقول: “في إحدى المرات قال لي أحدهم أنه لا يخرج مع شابة تعرج. بكيتُ كثيراً وسألت:” لم أنا؟ لم لا ينظرون الى شخصيتي؟ لماذا يكتفون برجلي؟ يا للسخافة”.
أكثر ما يعتصر قلب كريستال ويدمِع عينيها ويغيّر نبرة صوتها، هو حديثها عن المهنة التي تعشق: التمثيل! وعن ألمها وخيبتها لعدم حصولها على فرص عمل بسبب قصر رجلها. تشير بحسرة الى أنّها عملت بجهد على تطوير نفسها، حتى عندما كانت في الجامعة كانت تخلع الجهاز الذي يثقّل عليها ويعيق تمارينها، وتدخل إلى الصف لتكمل التمارين التمثيلية على قدم واحدة. درَست كثيراً، وقدَّمت مسرحية بمفردها لأربعة أيام متتالية من دون جهازها. كتَبت عدداً من المسرحيات ومقاطع الفيديو، ثمّ صوّرتها ونشرتها عبر صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي. بذلت جهداً كبيراً للجمع بين الشغف والموهبة والعلم، كي تكون ممثّلة كاملة… الا أنّ المخرجين والمنتجين كانوا يطلبونها لإجراء تجربة أداء لمسلسل أو فيلم معيّن، وحين تدخل الى الصالة يتفاجؤون بالرجل القصيرة، وبأنها بنظرهم “غير كاملة”. فيحاولون التملّص من العمل معها بعبارة “نعاود الاتصال بك”. تضحك كريستال وتقول: “وأكيد ما حدا رجع إتّصل”.
تستكمل كريستال الحديث عن عشقها الدائم: “على التمثيل أن ينقل الواقع. وفي واقع الحياة نصادف الكثيرين الذين يعانون من حالات جسدية معينة. لم لا يعطونني الفرصة لأجسّد هذه الأدوار؟ لماذا يستعينون بممثلين قادرين على المشي والتحرّك في الواقع، لتأدية دور على كرسي متحرّك؟ أنا أقبل بتجسيد هذا الدور، فأنا أكثر من يستطيع نقل الواقع! لكن للأسف، كل المقوّمات والمواصفات مطلوبة للتمثيل في لبنان، إلا الموهبة”. وتنظر بعيداً ثم تتابع: “لو كنتُ في بلد آخر لكنت مقدَّرة، ولكان الجميع ساعدني لأحقق أحلامي”.
من الألم الى الأمل…
كل معاناة كريستال التي تحدّثت عنها باختصار، تبقى غير كافية لوصف الواقع المرير الذي تمرّ به، والتحديات التي تواجهها يومياً منذ الصباح الباكر. لكنها حتماً أدخلتها الى نار الحياة، فخرجت منها ذهباً يشعّ أمام كل من عرفها.
أرهقها الألم، لكنّه صنع منها شخصاً مميزاً، تماماً مثل الطين الذي يذوب ويتعذّب بين أيدي النحات، لينتهي به الأمر تحفة نادرة تثير الإعجاب. فكريستال التي سئمت من المستشفيات ومن الأوجاع النفسية والجسدية، والتي عادت الى الحياة مرات عدة بعد ملامستها الموت، سمعت من والدتها عبارة “إذا ربّنا رجّعك على الحياة كل هالمرات، يعني أكيد بدو شي منك. يعني عندك رسالة، وإنتي لازم تعرفي شو هيي”.
ضحكت في البداية ولم تعِر كلام والدتها ما يستحقه من تفكير، لكنها لاحظت في ما بعد أنّها تحرّرت من فكرة إخفاء وضعها على مواقع التواصل الاجتماعي، وباتت تكتب بأسلوب معبّر ومشجّع للآخرين. إضافة الى أنها في كل مرة كانت تطل على متابعيها عبر مواقع التواصل الإجتماعي مباشرة من جلسة غسيل الكلى، كانت تنهال عليها التعليقات والرسائل التي تشكرها على إيجابيتها وعلى حبها للحياة وقوّتها في تحدي المشقات. كما تفاجأت بالكثيرين الذين كانت تظنّ أنّ حياتهم مليئة بالسعادة والفرح، وتبيّن أنّهم تعساء وقد أخذوا منها القوة.
فعلمت ان الله إختارها لهذه المهمّة! وتأكدت من رسالتها، فخلعت عنها ثوب إخفاء واقعها، وجهرت بوضعها، فتحولت حياتها من ألم الى أمل للجميع. وأصبحت محطّ أنظار الإعلام المحلي والعالمي، وباتت ضيفة مميزة عبر الشاشات لتعطي من وجعها قوة، ومن معاناتها شهادة ملهمة.
إستطاعت كريستال تخطي كل تنمّر وكل رفض، ونجحت في تحويل نظرات وعبارات المجتمع الجارحة الى نظرات وتعليقات إيجابية، وصلت أحياناً الى “نيالك”، “بدي رضاكي”، وهي اليوم لا تطلب الشفاء من الله، بل ان يعطيها القوة لتستمر في رسالتها.
لكنّ عدداً كبيراً من ذوي الاحتياجات الخاصة يعانون يومياً من التنمّر ومن أوجاع نفسية تتخطى أوجاعهم الجسدية، في مجتمع لا يحترمهم ولا يتعامل معهم بإنسانية، ويعيشون في دولة تحرمهم من أبسط حقوقهم كالمدارس والأماكن الخاصة المجهزة، ومن وزارات لا تهتم بشؤونهم وصحتهم على الرغم من التشريعات التي تكفل حقوقهم بالعمل.
كما يعانون من أرباب عمل يهمّشونهم بسبب وضعهم ويقدمون في المقابل فرص العمل على طبق من فضة لمن تمتلك “مواصفات خاصة”.
فهل قصة كريستال ستؤثّر بهم؟ وهل سيدرك من يخشى الاختلاف، مهما كانت علائم هذا الإختلاف، أن فقدانه للإنسانية أقبح من نظراته الفارغة نحو قدم أقصر من الأخرى؟