في خطوةٍ تاريخيّة وغير مسبوقة، سجّل مجلس الوزراء اللبناني برئاسة نواف سلام بتاريخ 4 نيسان 2025، انتصارًا نوعيًّا لدولة القانون والحقّ العام، من خلال استرداد ثلاثة مراسيم مخالِفة أقرّتها حكومة نجيب ميقاتي السابقة في أسابيعها الأخيرة، تتعلّق بإشغال الأملاك البحريّة العامّة في ذوق بحنين (عكّار)، راسمسقا (الكورة)، والقليلة (صور).
الخطوة التي وصفتها الأوساط القانونية والبيئيّة بـ”التحوّل المفصلي”، جاءت لتعيد الاعتبار للشرعيّة، وتضع حدًّا لمسارٍ طويل من سلعنة الشاطئ وخصخصة استعماله، بعد عقودٍ من التعدّيات والتغاضي الرسمي، لا سيّما تلك التي تفاقمت منذ الحرب الأهليّة وما تلاها من فوضى تشريعيّة وتنفيذيّة.
الدور المدني الحاسم
القرار التاريخي هذا ما كان ليحدث لولا الجهود المدنية والقانونية المستمرة التي بذلتها عدة جهات منذ اللحظة الأولى لصدور تلك المراسيم. وعلى رأس هذه الجهود، تبرز “المفكرة القانونية” وناشطوها، ومبادرة سياسات للغد، بالتعاون مع جمعيّات بيئيّة أخرى مثل “الخط الأخضر” و”الجنوبيون الخضر”، و”جمعيّة الأرض – لبنان”، وقد بادرت جميعها منذ البداية إلى رفع الصوت ضد هذه القرارات، مستنداتٍ إلى قوانين حماية البيئة (قانون 444/2002) والمرسوم التطبيقي المتعلّق بأصول تقييم الأثر البيئي (المرسوم 8633/2012)، إلى جانب الاتفاقيّات الدوليّة ذات الصلة بحماية البيئة البحريّة.
وقد كان لفريق المفكرة القانونية دور أساسي في قيادة المعركة القانونية ضد هذه المراسيم، وفي طليعته مديرها التنفيذي، الحقوقي والمحامي نزار صاغية، سواء من خلال الطعون المقدمة إلى مجلس شورى الدولة، أو عبر سلسلة من المطالعات القانونية التي كشفت بالأدلة كيف استخدمت حكومة ميقاتي صلاحياتها لتشريع مخالفات لاحقة على حساب الشاطئ العام.
كما كان للحقوقية والصحافية أماني البعيني، دورًا محوريًا في توثيق المخالفات وفضحها إعلاميًا وقانونيًا، وساهمت من خلال كتاباتها وتحقيقاتها في بلورة الرأي العام ضد تشريع التعدّيات.
المخالفات الجوهرية في المراسيم المستردّة
• مرسوم البحصاص (رقم 14331): منح منتجع “بالما” السياحي 76,140 م² من الأملاك البحريّة، خلافًا لصريح القانون 64/2017 الذي يقتصر على معالجة التعدّيات السابقة لعام 1994، في حين أنّ التعدّيات المعنيّة تعود للعامين 2011 و2012.
• مرسوم ذوق بحنين (رقم 14379): خصّ أشخاصًا من آل دبّوسي بأكثر من 53,000 م² من الملك العام بهدف إنشاء ميناء، من دون تحديد الوجهة النهائيّة للاستعمال، ووسط تغييب دور المجلس الأعلى للتنظيم المدني.
• مرسوم القليلة – صور (رقم 14620): منح شركة غير قائمة 14,560 م² من الأملاك البحريّة، في منطقة زراعيّة، من دون ذكر غاية الاستخدام، وبخلاف رأي المجلس الأعلى للتنظيم المدني.
ردّ الحكومة: حماية الشاطئ تبدأ هنا
ردًّا على هذه التحرّكات، باشرت الأمانة العامة لرئاسة مجلس الوزراء مراجعة دقيقة للمراسيم، أدّت إلى قرار استردادها. وقد اعتُبر هذا التطوّر بادرة جريئة لرئيس الحكومة نواف سلام ووزير الأشغال فايز رسّامني، اللذين أكّدا التزامهما حماية الملك العام وتطبيق القانون بحذافيره.
خطوة أولى في معركة طويلة
هذا القرار ليس نهاية المعركة، بل بدايتها. إذ تأمل الجهات المدنيّة والحقوقيّة أن يتبعه تفعيل فعلي لقانون 64/2017، بهدف معالجة تعدّيات الحرب الأهليّة حصريًّا، دون فتح المجال لتشريع تعدّيات لاحقة تُشرعن تفريطًا إضافيًّا بالشاطئ العام.
ومع اقتراب الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهليّة، يُسجَّل للبنانيين حقّهم في الحلم بشاطئٍ نظيف، حرّ ومتاح للجميع، بعد أن كاد يصبح حكرًا على أصحاب النفوذ والمصالح الخاصّة.