15 ألف عدّاء من 38 دولة يركضون في بيروت: ماراثون الحياة من الرماد إلى الأمل

لم تستيقظ بيروت، فجر الخميس، على يومٍ عادي. بل نهضت من رمادها، لتُعلن مجدداً قدرتها على التغلّب على موتها. الساعة الرابعة قبل الشروق، سبقت الموسيقى الشمس إلى المدينة، تُبشّر بيومٍ ستحتفظ به الذاكرة طويلاً.

لم يكن ماراثون بيروت مجرّد سباق يوماً، لكنه هذا العام تحديداً، بدا كصرخة داخلية، كنداء حياة بعد صمت طويل. ما تأجّل في تشرين الثاني حين كانت المدينة تحترق، عاد في الأوّل من أيار كعناد بيروتيّ في وجه الأقدار. كأن المدينة تقول: «أنا هنا، ما زلت أركض وأحلم».

من الجراح إلى البدايات

على الواجهة البحرية، احتشد الناس. من يشبهك، ومن لا يشبهك؛ من يحمل جرحاً صغيراً، ومن جاء بجراحٍ لا تُعدّ. اجتمعوا ليركضوا معاً، لا نحو النهايات، بل نحو بدايات جديدة. فالركض في بيروت لا يُقاس بالأمتار، بل بالمعنى. هو تحدٍّ للسقوط، وحركة ضدّ السكون، وإرادة تتجاوز التعب.

الركض فعل حياة

امتلأت الشوارع بعدّائين تركوا خلفهم كلّ ما يُثقِل. لم تعد الشوارع للشاحنات والأنين، بل للأقدام الحافية أحياناً، وللقلوب المشتعلة. هو يومٌ للذين لم يكتشفوا كامل قدراتهم بعد، ولمن اختبروا الخسارة والنجاة، ولأولئك الذين يركضون بذاكرة نازفة، أو بأمل أخير.

الركض أكثر من عضلات. هو علاقة مع الحياة. مواجهة مستمرّة مع الإرهاق، وإيمان بأن الألم يمكن أن يُنجب المعنى. العداء لا يهرب من الألم، بل يتقدّم إليه، يلتهمه، ويصعد به، لأنه يعرف أن المعاناة تطهّر، وأن كلّ وجعٍ يُقرّب خطوة من الذات، ومن الحقيقة.

رياضة تتكلم بصوت الروح

الركض أيضاً لحظة انكشاف. تمرين على الإصغاء للصوت الداخلي، وعلى اكتشاف كم من المعارك نخوضها بصمت. في كلّ خطوة نرمي أحمالنا، ونتخفّف من قسوة العالم. نركض لنتطهّر من الضجيج، من الخذلان، من الخوف والركود العاطفي. الركض، حين يكون صادقاً، يُقربنا من أنفسنا قبل أن يُقربنا من خط النهاية.

نركض لأننا لا نستسلم

نركض لنتذكّر أننا أحياء. أن الجسد، بكلّ ضعفه، لا يزال قادراً على الاستمرار، وأن القلب، رغم ثقله، لا يزال يعرف كيف يخفق. نركض لنتواضع، لأن الركض يجعلنا نرى الآخرين كما لم نرهم من قبل. كلنا متساوون على الطريق، لا يفرّقنا سوى مقدار ما نحمله من أمل.

الركض يعلّمنا كيف نُصغي، نُثابر، ونُحبّ الحياة رغم أوجاعها. هو فعل وجودي، وتمرين على أن نكون أفضل: في أجسادنا، في رؤيتنا للآخر، وفي علاقتنا بالزمن والمكان وبأنفسنا.

نتعلّم أن الانتصار الحقيقي ليس في الوصول أولاً، بل في ألّا نتوقّف عن المحاولة. أن نُكمل رغم التعب والعرق وكلّ ما يدفعنا للاستسلام. نركض لنصبح أكثر إنسانية، وأكثر قرباً من المعنى.

وطنٌ يستحق الركض من أجله

عند السادسة والربع صباحاً، انطلق السباق: 42 كيلومتراً للماراثون الكامل، و21 للذين اختاروا نصف المسافة. لكن لا أحد قطع نصف الشعور. الجميع حمل قلوباً ثقيلة وعيوناً شاخصة نحو الأفق، نحو وطنٍ يستحق أن نركض من أجله، لا أن نهرب منه.

ماراثون من أجل البقاء

الساحة امتلأت بوجوه لم تعرف النوم، وأجساد بالكاد استراحت. فماراثون بيروت ليس حدثاً عادياً، بل ولادة ثانية، وإثباتٌ للذات، وإعلانٌ بأن لبنان لا يزال يملك ما يقدّمه. وتحت شعار: «تعوا نركض من النهاية للبداية ليبقى لبنان»، انطلقت النسخة الـ21 من ماراثون بيروت، بشعارٍ خُطّ بحبر الألم، ونُطق بصوت الأمل، كما في كلمات نزار فرنسيس وغناء ملحم زين: «منقلها للدني نحنا ما مننحني».

لحظة لقاء بين اللبنانيين

تحت رعاية رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، وحضور رئيس الحكومة نواف سلام، نظّمت جمعية «بيروت ماراثون» الحدث، بقيادة رئيستها مي الخليل التي لا تزال تؤمن بأن الرياضة قادرة على جمع اللبنانيين تحت سماء واحدة، وفي شارع واحد، ليقولوا معاً: الحياة ممكنة.

15 ألف عدّاء في ساحة السلام

15 ألف عدّاء وعدّاءة من 38 دولة، احتشدوا في لحظة متوهّجة. كان المشهد مقاومة رمزية ضد الحرب والتقسيم، وساحة سلام، وخريطة لوطن يُعاد رسمه بالركض.

سباق المشاركة والصوت الحر

ثم أتى سباق الـ5 كيلومترات ليُكمل اللوحة. لم يكن سباق سرعة، بل سباق مشاركة. ركض فيه ذوو الاحتياجات الخاصة، والناشطون، والحالمون، والمؤمنون. هو الركض من أجل أن يُسمع الصوت، لا أن يُكتم. من أجل بلدٍ يستحق أن يُعاش.

سبع ساعات من الحماسة والعرق والوجوه التي تبتسم رغم كلّ شيء. شخصيات من مختلف القطاعات شاركت، وجمهور جاء لا ليشاهد فقط، بل ليؤمن من جديد. شاشة LBCI نقلت المشهد، وموسيقى الجيش عزفت النشيد، وأصوات الفنّ والرقص ملأت الفضاء.

الركض نحو المعنى

لكن ماذا يبقى بعد كل هذا؟ ما يبقى هو النبض. الشعلة التي تُضاء مع كلّ نسخة. الإيمان بأن بيروت، مهما تهدّمت، تعرف طريقها إلى الحياة. وأن الركض ليس هروباً من الدمار، بل ذهاب إليه لمواجهته وتحويله إلى معنى.

بيروت تركض لتثبت أنها مدينة جديرة دائماً بالأمل. كلّ خطوة تُحرّك حجراً من الركام، وكلّ نَفَس يُبدّد دخان الحرائق. من بين الأنقاض، تولد مدينة جديدة. في بيروت، لا تنتهي القصص. ونحن شهودٌ على أنها ستظلّ تُروى.